مواقف عمر تجاه أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وآله
إن المتتبع لمواقف أبي حفص
تجاه أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وآله - سواء في حياة النبي صلى الله
عليه وآله أو طيلة مدة خلافته - يجدها مواقف تنبئ عن شخصية فريدة في نوعها ،
تختلف تمام الاختلاف عن بقية شخصيات الصحابة ، وذلك
ن حيث جرأة مواقفه وتصرفاته تجاه النبي المعصوم صلى الله
عليه وآله ! فعمر لم يكن يرى أفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وآله في عصمة عن
المسألة والمعارضة ، وكأنه لم يكن يرى التسليم لما يعرضه ويصدره النبي صلى الله
عليه وآله من أوامر ونواه أمرا لازما له .
وفي حقيقة الأمر أن تلك
التصرفات العمرية تشير بوضوح إلى نوع من عدم الاعتقاد بعصمة النبي صلى الله
عليه وآله حتى في تبليغ الوحي ، فضلا عن شؤون الحياة الأخرى ، إن جاز القول
بعدم عصمة النبي فيها ، فعمر لم يكن يرى بأسا في
مناقشة النبي صلى الله عليه وآله فيما يقول أو يفعل ، بل
لم يكن يرى بأسا في نهي النبي صلى الله عليه وآله عن بعض ما يقول ويفعل .
كما أنه لم يكن يتردد في إحلال ما يصدره من أقوال وأفعال
وآراء شخصية بل أوامره ونواهيه هو محل أقوال وأفعال وأوامر ونواهي النبي صلى
الله عليه وآله .
وهذه التصرفات لا تحصى في
حياة عمر ، الأمر الذي اضطر المعجبين به إلى اختراع تفسير لهذه الجرأة تجاه
النبي صلى الله عليه وآله وتحويلها إلى محاسن ومناقب ! في حين نرى شخصيات أخرى
من بين الصحابة لا تقل عن عمر
في شئ إن لم تفقه في كل شئ ، لا ترى إلا التسليم التام
والخضوع الكامل أمام أوامر ونواهي رسول الله صلى الله عليه وآله .
فالذين هم في إعجاب بشخصية أبي
حفص يفسرون تلك التصرفات العمرية تجاه كلام أو فعل النبي صلى الله عليه
وآله ، بالاجتهاد والشجاعة في قول الحق ، فوصفوا عمر بأنه لا يخشى في الحق لومة
لائم ! فشخصية عمر لم تكن ترضى بالانقياد ، بل تسعى دوما لأن تكون على دفة
القيادة ومقام الريادة .
وفي الحقيقة ، إننا نتساءل عن
الاجتهاد العمري هذا . . على أي أساس ابتنى ؟ فإن كان قد قام على أساس العلم
والإدراك لمسائل الدين ، فمعنى هذا أنه يفترض تفوقه العلمي على رسول الله صلى
الله عليه وآله ! غير أن عمر لا يمكن أن يكون أعلم الصحابة ، فضلا أن يترجح
علما على النبي صلى الله عليه وآله .
وإن كانت جرأته هذه قد ابتنت
على غيرة اتصف بها أبو حفص على الدين، فلا يمكن أن نقبل أن غيرته على الدين قد
فاقت ما لكثير من الصحابة من غيرة على الإسلام، فضلا عن الغيرة التي كان يتمتع
بها النبي الكريم على دين الله فهذا أساس لا يجيز لعمر أن يقيم عليه اجتهادا
قبال ما يصدر من النبي صلى الله عليه وآله ، أو يقيم عليه تصرفا يخرجه من دائرة
التسليم للوحي.
ونحن لا يمكن أن نجد قولا أو فعلا أو تقريرا لشخص يضاهي ما
للرسول صلى الله عليه وآله من ذلك كله ، فلو كان المعصوم من الناس لا يسعه -
على رغم عصمته - إلا التسليم لما جاء به الوحي ، وليس له بعصمته هذه مجوز
لمخالفة ما
أثبته الوحي الإلهي . . فكيف بعمر الذي قضى ردحا من
الزمان يسجد للأحجار ؟ ! إن العصمة لا تضمن لصاحبها إلا صحة الاتباع والاقتداء
بالوحي ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله إلا مأمورا بأن يبلغ ويفعل ما يؤمر
به .
فإن كان لا يجوز للنبي صلى الله عليه وآله الاجتهاد في
مقابل الوحي - وهو المعصوم - فبأي شئ ومن أي طريق جاز ذلك لعمر بن الخطاب ؟ ! !
وإذا فرض علينا المعجبون بعمر
اجتهاداته ضد النصوص النبوية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله فلا يستطيعون
أن يفرضوا علينا اجتهاداته ضد أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وآله والنبي
على قيد الحياة .
ثم إنهم كثيرا ما يصورون لنا أن النبي صلى الله عليه وآله
كان يقر عمر على رأيه الذي خالف
وعارض به أمر النبي صلى الله عليه وآله ! فوصفوه بأنه
صاحب إلهام من الله جنبا إلى جانب الوحي ! إن الاجتهاد ضد النص لا يجوز أبدا ،
إذ أنه لا يعني إلا إحلال الرأي البشري محل الوحي الإلهي ، ولا معنى له سوى ذلك
. . فلو كان
الإسلام صالحا لكل زمان ومكان ، فالاجتهاد ضد النص هو
إبطال لتلك الصلاحية الشاملة لكل الأمكنة والأزمنة ، ويكون قول الله تعالى :
( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )
( 1 ) مخصوصا ومحصورا بمكان وزمان نزول الآية هذه ، علما أن ابن الخطاب لم يعمل
بهذا حتى في زمان ومكان نزول هذه الآية .
إن الاجتهاد ضد النص الإلهي
لا يعني إلا نسخ الوحي بالرأي البشري المخالف له ، وهذا في حقيقة الأمر إلغاء
تام للنص الإلهي . على أن نسخ القرآن بالسنة أمر لا يجوز ، فالسنة مبينة ومفسرة
ليس إلا . . فكيف إذا بكلام ورأي ابن الخطاب
ومن ينحو نحوه ؟ ! على أن الوحي لما كان عالما بوجود هذا
الصنف من الناس ، تشدد في النهي عن مخالفة نبي الإسلام المعصوم ، ووصفها
بالمعصية والضلال ، فقال : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله
ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) ( 2 ) . . فهل لعمر بعد هذا سبيل إلى
معارضة أو مخالفة كلمة من كلام النبي صلى الله عليه وآله ؟ ! وإذا اجتهد ضد هذه
الآية الواضحة الصريحة . . فهل يوصف اجتهاده هذا بشئ غير المعصية والضلال
المبين ؟ ! نعم ، لقد كان لأبي حفص تلك المواقف والمعارضات تجاه نبي الإسلام .
وإليك أمثلة تؤكد ما ذكرناه :
<table style="border-collapse: collapse;" id="AutoNumber18" width="100%" border="0" bordercolor="#111111" cellpadding="0" cellspacing="0"> <tr> <td width="2%" bgcolor="#cccccc"> </td> <td width="96%" bgcolor="#cccccc"> * هامش * </td> <td width="2%" bgcolor="#cccccc"> </td> </tr> <tr> <td width="2%" bgcolor="#cccccc"> </td> <td width="96%" bgcolor="#cccccc"> ( 1 ) الحشر : 7 . ( 2 ) الأحزاب : 36 . ( * ) . </td> <td width="2%" bgcolor="#cccccc"> </td> </tr> </table> |
عمر وصلح الحديبية لما وافق النبي صلى الله عليه وآله
على شروط صلح الحديبية ، وأمر عليا عليه السلام بكتابة الصلح ، تصدر أبو حفص
فئة المعارضين للصلح ، وتشدد على النبي صلى الله عليه وآله ، فخرج بخطابه للنبي
صلى الله عليه وآله على أية حال عن أمر التسليم لأمر النبي الكريم ولما رضي به
صلى الله عليه وآله .
ولندع ابن الخطاب يحكي لنا بنفسه ما
دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله يوم ذلك الصلح :
يقول ابن الخطاب : فقلت :
ألست نبي الله حقا ؟ ! قال [ صلى الله عليه وآله ] : بلى . قلت : ألسنا على
الحق وعدونا على الباطل ؟ ! قال [ صلى الله عليه وآله ] : بلى . قلت : فلم نعطي
الدنية في ديننا إذا ؟ ! قال صلى الله عليه [ وآله ] وسلم :
إني رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري . ( قال ) [ عمر
] : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ ! قال [ صلى الله عليه وآله ]
: بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ ! قلت : لا . قال [ صلى الله عليه وآله ] :
فإنك آتيه ومطوف به .
قال [ عمر ] : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر ، أليس
هذا نبي الله حقا ؟ قال [ أبو بكر ] : بلى . قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على
الباطل ؟ قال [ أبو بكر ] : بلى . قلت : فلم نعطى الدنية في ديننا إذا ؟ قال [
أبو بكر ] : أيها الرجل ، إنه
لرسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه
، فوالله إنه على الحق . ( قال ) [ عمر ] : فقلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي
البيت ونطوف به ؟ ! قال [ أبو بكر ] : بلى ، أفأخبرك أنك آتيه العام ؟
( قال ) [ عمر ] : قلت : لا . قال [ أبو بكر ] : فإنك
آتيه ومطوف به . قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . قال [ عمر ] : فلما فرغ رسول
الله [ من الكتاب ] قال [ صلى الله عليه وآله ] لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم
احلقوا . ( قال ) [ عمر ] : فوالله
ما قام منهم رجل ، حتى قال ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم
منهم أحد ، دخل [ صلى الله عليه وآله ] خباءه ، ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشئ
، حتى نحر بدنة بيده [ الشريفة ] ودعا حالقه فحلق رأسه ، فلما رأى أصحابه ذلك ،
قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا ( 1 ) .
وقد ذكر الحلبي في سيرته -
عند ذكر صلح الحديبية - : " أن عمر جعل يرد على رسول الله [ صلى الله عليه وآله
] الكلام ، فقال له أبو عبيدة بن الجراح : ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله
يقول ما يقول ؟ نعوذ بالله من الشيطان الرجيم " . قال الحلبي : " وقال رسول
الله [ صلى الله عليه وآله ] يومئذ : يا عمر ! إني رضيت وتأبى ؟ ! " ( 2 ) .
فانظر كيف كان عمر بن الخطاب شديدا
على رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يجد من نفسه استطاعة لأن يخضع لأمر
الله ويرضى بما رضي به نبي الله صلى الله عليه وآله ! فأين الطاعة والتسليم
المطلق الذي كان من المفترض أن يتسم به عمر تجاه ما قضى به الله ورسوله ؟ !
أم كان عمر يظن أن له الخيرة من أمره
، وأنه ليس ملزما بالتسليم لذلك الأمر تسليما لا يجد معه في نفسه حرجا نحو ما
يقضي به رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ !
وفي الحقيقة لم يكن عمر يثق
في كلام النبي صلى الله عليه وآله ، وكان يرى أن النبي صلى الله عليه وآله قال
ما لم يفعل ، وهذا واضح في قوله وخطابه للنبي الكريم : " أوليس كنت تحدثنا أنا
سنأتي البيت ونطوف به ؟ ! " فعمر لما رأى أن النبي
صلى الله عليه وآله انصرف عن الطواف بالبيت في هذا العام ،
ووافق - طبقا للصلح - على الرجوع دون الطواف ، ظن أن ما وعدهم به النبي صلى
الله عليه وآله لم